شبكة قدس الإخبارية

لماذا ينظر الإسرائيليون لأكتوبر 2023 كمرحلة فاصلة أكثر من أكتوبر 1973؟ 

njqh06s1cusb1-1742148365

خاص - شبكة قُدس: منذ تأسيس كيان الاحتلال، اعتاد قادته ومؤرخوه إجراء مقارنات بين الأزمات الكبرى التي واجهته، غير أنّ المقارنة الأشد حضورًا في الوعي الإسرائيلي اليوم هي تلك التي تُعقد بين حرب أكتوبر 1973 وما جرى في السابع من أكتوبر 2023. ورغم أن حرب 1973 شكلت صدمة عسكرية عنيفة، فإنّ ما وقع قبل عامين في ما يسميه الإسرائيليون “السبت الأسود” يُنظر إليه داخل الجمهور الإسرائيلي كحدث أكثر خطورة ووطأة. الفارق لا يتعلق فقط بعدد القتلى، بل بطبيعة الضربة، وبحجم الشلل الذي أصاب مؤسسات الاحتلال، وبالإحساس الجماعي بانهيار العقد الاجتماعي الذي قام عليه الكيان.

في حرب أكتوبر الأولى فوجئت قوات الاحتلال بهجوم منسق للجيشين المصري والسوري. الصدمة كانت كبيرة، لكن معظم القتلى كانوا من الجنود. الجبهة الداخلية للاحتلال لم تتعرض لاجتياح مباشر، ولم تشهد عمليات قتل جماعي للمستوطنين أو أسر لهم. أما في 7 أكتوبر 2023، فقد تمكن مئات المقاومين الفلسطينيين من عبور السياج الفاصل من غزة، وشنوا هجمات على مستوطنات وكيبوتسات، ما أدى إلى مقتل نحو 1200 إسرائيلي، بينهم مستوطنون وجنود، وأسر أكثر من 250 إلى داخل القطاع.

لكن خطورة الحدث تكمن في أنّه لم يُطوَ بعد. بعد مرور عامين، لا يزال عشرات الإسرائيليين في الأسر داخل غزة، فيما لم تعد عشرات آلاف العائلات من المستوطنين إلى بيوتها في الجنوب والشمال. مستوطنات كاملة بقيت شبه مهجورة، والحياة لم تعد إلى مسارها الطبيعي. بالمقارنة مع حرب 1973 التي استمرت ثلاثة أسابيع، تحول 7 أكتوبر إلى جرح مفتوح لم يلتئم بعد.

كما تكررت ظاهرة “الكونسبتيا” أو الوهم الاستراتيجي. ففي 1973 بُنيت قناعة الاحتلال على أنّ الجيوش العربية لن تجرؤ على المبادرة إلى الحرب. وفي 2023 سيطرت رؤية مشابهة، مفادها أنّ حركة حماس مردوعة ومنشغلة في إدارة القطاع. التحذيرات وُجِدت، لكن القيادة السياسية والعسكرية تجاهلتها. حين وقعت الهجمة، تبيّن أنّ الجيش غير جاهز، وأن المستوطنين تركوا ساعات طويلة وحدهم قبل وصول التعزيزات. وإذا كانت هزيمة 1973 ذات طابع عسكري بحت، فإنّ هزيمة 2023 جسدت صورة انهيار حماية المستوطنين أنفسهم.

بعد حرب أكتوبر الأولى، سارعت حكومة الاحتلال إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية، هي لجنة “أغرنت”، التي استمعت لعشرات الشهادات وأصدرت توصيات ملزمة. ورغم الانتقادات، اعتُبرت خطوة تثبت تحمل الدولة لمسؤوليتها. أما بعد 7 أكتوبر، فقد رفضت حكومة نتنياهو حتى الآن تشكيل لجنة تحقيق رسمية، مكتفية بتحقيقات داخلية في الجيش، وهو ما يُنظر إليه في الجمهور الإسرائيلي كمحاولة تهرب من المسؤولية، زاد من أزمة الثقة بين القيادة والجمهور.

استطلاعات الرأي عكست هذا التآكل الحاد في الثقة. شرائح واسعة من الإسرائيليين حملت نتنياهو المسؤولية المباشرة وطالبت باستقالته، فيما أعلن عدد من القادة العسكريين استقالتهم أو نيتهم ترك مناصبهم. المفارقة أنّ المؤسسة العسكرية اعترفت بأخطائها بينما القيادة السياسية تمسكت بمواقعها، وهو ما عمّق الإحساس بأن الأزمة ليست فقط عسكرية بل سياسية ومؤسساتية أيضًا.

دوليًا، انتهت حرب 1973 بمسار سياسي توج باتفاق سلام مع مصر، ما منح الاحتلال إنجازًا استراتيجيًا رغم الكلفة البشرية العالية. أما منذ 2023، فالمسار معاكس: عزلة دولية متزايدة، انتقادات واسعة، ملاحقات قضائية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وانهيار صورة “إسرائيل” كدولة قادرة على حماية نفسها أو احترام القانون الدولي. هذا التحول عزز الشعور الداخلي بأنّ المأساة الحالية لا تتعلق بالخسائر البشرية فقط، بل بمكانة الكيان في النظام الدولي.

اللافت أيضًا أنّ الهجوم وقع في لحظة هشاشة داخلية استثنائية. فقد شهد عام 2023 أزمة “الإصلاح القضائي” واحتجاجات غير مسبوقة، مع تهديدات من ضباط احتياط بالامتناع عن الخدمة. تلك الخلفية جعلت ما جرى يبدو أقل كـ”مفاجأة خارجية”، وأكثر كصورة لانقسام داخلي سبق الانهيار. في 1973، ورغم الصدمة، تشكل لاحقًا إجماع أفضى إلى تغييرات قيادية. أما في 2023، فقد تعمق الانقسام، ولم يتشكل أي توافق جامع.

الأثر المستمر على الحياة اليومية فاقم من ثقل الصدمة. الاقتصاد الإسرائيلي يعاني عجزًا متزايدًا، الاستدعاء الاحتياطي مستمر لفترات طويلة. في حين تمكن الجمهور الإسرائيلي بعد 1973 من العودة سريعًا إلى النمو والاستقرار، تبدو مرحلة ما بعد 2023 مأزقًا بلا مخرج. الحرب لم تنتهِ، الحدود مشتعلة، والأسرى في غزة. لا يلوح أي مسار سياسي يعيد الشعور بالأمان.

أما من الناحية الرمزية، فقد عزز وصف ما جرى بأنه “اليوم الأكثر فتكًا منذ المحرقة” البعد الوجودي للصدمة. مشاهد الفيديو التي انتشرت عبر شبكات التواصل وثّقت عمليات المقاومة لحظة بلحظة، وجعلتها متاحة لكل بيت في الداخل الإسرائيلي، ما عمّق الجرح النفسي. بخلاف حرب 1973 التي أعيدت صياغتها في الذاكرة عبر تقارير وكتب لاحقة، فإنّ 7 أكتوبر انغرس في الوعي عبر صور فورية لا تُمحى.

صحيح أنّ حرب 1973 أوقعت أكثر من 2500 قتيل إسرائيلي، مقابل نحو 1600 منذ 7 أكتوبر 2023، لكن المقارنة الرقمية لا تعكس الفارق. فحرب 1973 كانت اختبارًا عسكريًا، بينما مثلت هزيمة 2023 انهيارًا لأساس الحماية المدنية، وانكسارًا لوعد الدولة بتأمين مستوطنيها. ولهذا يبدو الحدث الأخير، رغم أرقامه الأقل، أشد وطأة وعمقًا.

وما بين حرب أكتوبر 1973 وحرب أكتوبر 2023؛ مثلت الأول “مفاجأة عسكرية” كبرى انتهت بمسار سياسي جديد، بينما الثانية مثلت انهيارًا شاملًا أمنيًا وسياسيًا واجتماعيًا ودوليًا، لم يكن مجرد هجوم، بل لحظة مفصلية هزت الأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني، ولذلك يبقى في الوعي الإسرائيلي أخطر من “حرب أكتوبر 1973”، لأنه لم يفتح باب بداية جديدة، بل رسخ أزمة مستمرة حتى اليوم.